مدونة البوابة

الشمول المالي في العالم العربي

تحليل الوضع الحالي يبرز إمكانات مستقبلية هائلة لتعميم الخدمات المالية
شاب في السوق في رام الله، الضفة الغربية. مجموعة صور البنك الدولي.

لنتخيل أننا في عام 2030، وأن الغالبية العظمى من سكان العالم العربي تتمتع بإمكانية الحصول على الخدمات المالية. فعلى مدى العقدين الماضيين، قامت الإصلاحات القانونية بتوسيع الأسواق المالية لمقدمي الخدمات المالية الحاليين والجدد، مما حفز مزيداً من التخصص والمنافسة فيما بينها. كما صار بإمكان الناس سداد المدفوعات الصغيرة (سواء فيما بين الأشخاص، أم بين الأشخاص والشركات، أم فيما بين الشركات، أم بين الأشخاص والحكومة، أم بين الحكومة والأشخاص) في ثوانٍ معدودة، مما يجعل رحلة سداد فاتورة المرافق التي كانت تستغرق نصف يوم قصة من قصص الماضي العتيق. وازدادت أيضا مبالغ الودائع داخل النظام المالي الرسمي، سواء في البنوك الكاملة أم في بنوك المدفوعات أم في بنوك التمويل الأصغر، بما بين الضعفين إلى خمسة أضعاف. وبدافع من هذه السيولة الإضافية، حقق الإقراض الرسمي للقطاع الخاص وللأفراد أثراً مضاعِفاً، مساهماً في نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حد أدى فعلاً إلى تقليص التفاوتات. ومن المتوقع أن تسفر المزيد من الشراكات فيما بين القطاعين العام والخاص عن توفير تغطية تأمينية شبه شاملة للجميع.

والآن لنعود إلى الواقع. الصورة في 2017 مختلفة تماما، إذ يشير تحليل البيانات المتاحة من المؤشر العالمي لتعميم الخدمات المالية - على النحو المبين في تقرير مشترك (بالإنجليزية) للمجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (سيجاب) وصندوق النقد العربي بشأن قياس تعميم الخدمات المالية في العالم العربي - إلى طلب كبير غير ملبَّى على الخدمات المالية. ويظهر التحليل أن 70% من البالغين في المنطقة (أي حوالي 168 مليون شخص) يفتقرون إلى إمكانية فتح حساب أساسي، ويقارب هذا الرقم 80% في البلدان النامية في المنطقة. المهم أن التحليل يوضح أيضاً أن كثيراً ممن لا يملكون حسابات مصرفية مواطنون ناشطون اقتصادياً، وذلك حسب إفادة 92 مليون شخص عن اقتراضهم الأموال بشكل غير رسمي. وتشير هذه الأرقام مجتمعة إلى أن مقدمي الخدمات المالية أمامهم فرصة لتلبية طلب هائل في أنحاء العالم العربي، بما في ذلك في البلدان ذات الأسواق المالية الأكثر نشاطاً نسبياً.

وقد يصعب على المرء لأول وهلة أن يصدق أن نسبة 70% بأكملها من سكان المنطقة يفتقرون إلى إمكانية فتح حساب مصرفي، لكن الاتجاهات متطابقة عند تحليل بيانات جانب العرض المستمدة من مسح إمكانية الحصول على الخدمات المالية لصندوق النقد الدولي. بصرف النظر عن الطريقة التي تنظر بها إلى هذا الواقع، سواء بإجراء مسح عن المواطنين العاديين أو عن طريق جمع البيانات من مقدمي الخدمات المالية، فالاستنتاج واحد، وهو أن العالم العربي متأخر عن المناطق الأخرى في العالم من حيث إمكانية الحصول على الخدمات المالية الرسمية.

الشكل 1. حساب لدى مؤسسة مالية رسمية (السن 15 سنة فأكثر)، حسب المنطقة

‏‏المصدر: بيانات مؤشر تعميم الخدمات المالية 2011 و2014، عدا الأعمدة الملونة بالأرجواني، محسوبة استناداً إلى بيانات مؤشر تعميم الخدمات المالية.

ملحوظة: يكشف مؤشر تعميم الخدمات المالية عن متوسط 14%  لبلدان الشرق الأوسط النامية بما فيها مصر والعراق والأردن ولبنان وفلسطين واليمن. الأرقام الأخرى الخاصة بالعالم العربي محسوبة كمتوسطات مرجحة حسب السكان الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة. تشمل دول مجلس التعاون الخليجي البحرين والكويت وسلطنة عمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. يشمل العالم العربي جميع البلدان الأعضاء في صندوق النقد العربي، وهي دول مجلس التعاون الخليجي والجزائر وجزر القمر وجيبوتي ومصر والعراق والأردن ولبنان وليبيا وموريتانيا والمغرب وفلسطين والصومال والسودان وسوريا وتونس واليمن.

 الشكل 2. حساب لدى مؤسسة مالية رسمية (السن 15 سنة فأكثر)، في العالم العربي

 ‏‏المصدر: بيانات مؤشر تعميم الخدمات المالية 2011 و2014، باستثناء ما يخص المغرب (مقدّرة بتطبيق معدل النمو الذي أعلنه بنك المغرب بشأن عدد الحسابات وفقاً لما جُمع من مقدمي الخدمات المالية على بيانات مؤشر تعميم الخدمات المالية 2011).

ملحوظة: يقتصر التقديم على بيانات عام 2011 فيما يخص البلدان التي لا تتوفر بشأنها أي بيانات من عام 2014 (جزر القمر وجيبوتي والمغرب وسلطنة عمان وقطر وسوريا).


الخبر السار هو أننا بدأنا نقترب من المستقبل الذي وصفناه في بداية المقال. فقد شهد العالم العربي تقدماً ملموساً في تعميم الخدمات المالية على مر السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك تغييرات في الأطر القانونية والتنظيمية، التي كانت تاريخياً (وما زالت في أغلب الأحوال) أهم العقبات التي تواجه تعميم الخدمات المالية في المنطقة. ركزت الكثير من التغييرات من 2011 إلى 2015 على التمويل متناهي الصغر، لكن هناك بلداناً عديدة أتاحت للمؤسسات المالية غير المصرفية تقديم خدمات ائتمانية وتسويق منتجات تأمينية نيابة عن شركات التأمين للمرة الأولى (مثال ذلك المرسوم التونسي رقم 117، والمرسوم الفلسطيني رقم 132، وقانون تنظيم التمويل متناهي الصغر المصري رقم 141، ونظام شركات التمويل الأصغر رقم 5 بالأردن). ومؤخراً أجازت القوانين المصرفية المجددة لشركات المدفوعات المرخصة والخاضعة لإشراف البنك المركزي إصدار حسابات معاملات (مثال ذلك قانون رقم 12-103 لسنة 2015 المتعلق بالبنوك في المغرب وقانون عدد 48 لسنة 2016 المتعلق بالبنوك في تونس). ومن المتوقع أن تحدث اللوائح التنفيذية المقبلة في المغرب وتونس أثراً كبيراً في معالجة المدفوعات الصغيرة لمن يملكون حسابات مصرفية ومن لا يملكونها على السواء. كما تسمح الأردن الآن لكل من اللاجئين والمواطنين بفتح محافظ إلكترونية، وذلك بعد الإقدام على مجازفة جريئة بالتصريح بالتشغيل البيني فيما بين مقدمي خدمات المدفوعات بالهاتف الجوال منذ أول يوم للعمليات (على النقيض من بلدان أخرى كثيرة قد يستغرق فيها التشغيل البيني سنوات). وقامت قطر، التي تستضيف أعداداً كبيرة من العمالة المهاجرة كحال الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي، بتسهيل التحويلات من خلال الهاتف الجوال وخفضت تكلفتها، الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحسين حياة الآلاف في أنحاء المنطقة وخارجها.

فيما يقوم عدد من البلدان بوضع الاستراتيجيات الوطنية للشمول المالي موضع التطبيق، تستفيد المنطقة أيضاً من زيادة تبادل المعرفة. ويعتبرفريق العمل الإقليمي المعني بالشمول المالي والتابع لصندوق النقد العربي أحد الأمثلة على تبادل المعرفة بين البنوك المركزية في المنطقة، إذ يعكف الفريق - بالتعاون مع شركاء عديدين - على إتاحة المزيد والمزيد من الأدوات بشأن مواضيع تتراوح من مسوح جانب الطلب والحماية المالية للمستهلك وصولا إلى الحد من المخاطر.

 لا شك أنه ما زال هناك الكثير مما يجب القيام به على مختلف المستويات من أجل تلبية الطلب الكبير في العالم العربي على الخدمات المالية، إذ يتطلب الوصول إلى المدخرات الصغيرة، التي تعتبر من أهم الخدمات المالية لمنخفضي الدخل، أطراً قانونية أكثر ملاءمة (كالترخيص المتدرج لمقدمي الخدمات والحيطة الوافية في التحقق من هوية العملاء) بحيث يتسنى ظهور مقدمي خدمات متخصصين واستدامتهم. ولعل الاستثناءات تتمثل في بلدان كالمغرب وتونس، التي تلعب فيها الشبكات البريدية دوراً رئيسياً في تقديم الخدمات الأساسية، أو اليمن، المطبّق به بالفعل قانون مصرفي سليم لتنظيم التمويل الأصغر. كما لا توجد بعد بيانات مصنفة حسب الجنس متاحة بشأن تعميم الخدمات المالية في المنطقة، على الرغم من أن وجودها كان سيسمح بوضع سياسات أدق استهدافاً للتعامل بصورة أكثر فعالية مع الأعراف الاجتماعية المتصلة بحقوق المرأة القانونية والاقتصادية. وأخيراً فحتى إذا كانت هناك لوائح وبنية تحتية في بعض الأسواق، فلم تشهد الأطراف المعنية بعد قصص نجاح حقيقية أو تقليص يذكر في الفجوات السوقية.

ومع ذلك فالآمال كبيرة، ويمكن القول إن أكبر تغيير مشجع حدث على مر السنوات الماضية، وهو التحول في الخطاب السائد بين واضعي السياسات، الذي صاروا الآن يعترفون بواقع الإقصاء المالي. كما أن هناك توافق متزايد في الرأي على وجود سوق غير مستغلة وفرصة هائلة لتطوير خدمات مالية مصممة خصيصا لمن يحتاجون إليها، بما يصب في مصلحة الجميع. ولدفع عجلة تعميم الخدمات المالية، نحتاج إلى سياسات مستندة إلى الحقائق، على أن تنفذها وتؤازرها كتلة حرجة من واضعي السياسات الحريصين على تحسين النظم المالية في بلدانهم. والآن وفيما نرى عدداً من المؤسسات تتكاتف لإحداث هذا، من الجائز تماماً أن تتحول فرص اليوم إلى واقع الغد!

المقال الرئيسي على مدونة سيجاب ( بالإنجليزية).

 

اترك تعليق

يقوم فريق تحرير البوابة بمراجعة وإدارة نشر التعليقات. نرحب بالتعليقات التي تقدم ملاحظات وأفكار ذات صلة بالمحتوى المنشور. تعلم المزيد.